ألم الفقد ووحشية الفراق

الجزء الأول

فاجعة ذاك النمر الصغير شر فاجعة عندما استيقظ ونادى أمه ولم يلق جوابا فمضى إلى الأماكن التي اعتاد التجول فيها معها يركض حولها ويبتعد عنها ليستمطر حنانها حين تناديه فلم يجدها وصرخ بأعلى صوته يناديها ولا مجيب سوى رجع الصدى حتى أرهق حنجرته وبح صوته وأصبح نداؤه أنينا ممزوجا بحسرة الفراق والفقد والضياع.

أشرقت شمس اليوم التالي ولم تشرق شمسه بعد , بعد ليلة موحشة قضاها وحده يسمع صراخ الوحوش حوله ولا حضن يكتنفه ككل ليلة سوى حضن الحجر الذي توسده فيا طول ليل من كان ملاذه الحجر.

وأعاد جولته كأمس على نفس الأماكن بأمل يلاحقه اليأس وفي كل مكان صورة وذكرى عن نجدتها وحبها وحنانها

فذا مكان أطعمته فيه وذا مكان لاعبته فيه وذا مكان طردت منه الضبع الذي أبصره في نفس الوقت وحيدا فهجم عليه هجوم الحزن الذي خيم عليه بفراقها ليطرده من مملكة كان فيها الأمير المدلل مكلوما حزينا.

أطلق صوته معتذرا بقصائد الاعتذار والشكوى لعل أمه تسمعه فتعود ولا مجيب سوى الضباع والوحوش التي علمت بضياعه فأصبحت تستهدفه لتستولي على أرضه أو تهلكه فكان بين نار الفراق ونار الهلاك فبعد أن كان سيد هذه الأرض أصبح مطاردا ويغالب دموعا لا يعلم أهي من حزن الفراق بلا وداع أم وحشية الحال.

ليعود إلى حضن الحجر الذي تبقى له فيكمن فيه وفي قلبه آلام لا يحتملها قلبه الصغير وفي عينيه عتاب عاذر ولوم محب بعد أن أدرك أن الفراق حتمي فتمنى لو نظرة ووداعا إلى ذلك القلب الذي فارقه رحمة وحبا وحنانا.

الجزء الثاني

عندما يئس النمر وأيقن بفراق واستسلم لحضن الحجر

كان يغني كل ليلة أغاني الحزن ويردد أبيات الفراق وأناشيد الوداع

ويطلع عليه الصبح وهو كالثمل يترنح من ألم الوحدة ويردد آهات عالية يتردد صداها في الأرجاء

وحين ذاك سمع صوتا يعرفه من بعيد أعاد له روح الأمل من جديد

إنه صوت أمه

فهب واثبا نحو الصوت بفرح يغذيه بطاقة يكاد يطير بلا أجنحة

وحقا كان ما سمع ها هي أمه جالسة تحت ظل شجرة

ها هي القلب الحنون والملاذ الآمن

ها هي الحصن الحصين

فجمع كل قوته ليصل إليها ويحتضنها بشوق

وما إن وصل إليها ليرتمي في حجرها فتزيح عن كاهله جبال الوجع

جبهته بزمجرة غاضبة وكادت تدمي له وجهه

لم يستوعب النمر المسكين الأمر فظن أنه ارتكب خطأ بمفاجأتها

فقال لها بتودد: هذا أنا! لا تفزعي!

فعاجلته بضربة أسقطته وشجت له رأسه وقالت له: ماذا تريد الآن؟ امض بعيدا ولا تعد فقربي منك حرام فاذهب وعش حياتك عني قصيا

وأيضا لم يستوعب النمر بعد فتوسل وتذلل وقبل قدميها وهي ترفسه كلما فعل

فقال لها: لا أستطيع العيش دونك

قالت بوحشية: لا أستطيع أن أفعل لك شيئا 

قال: اغفري لي إن أخطأت, أو عذبيني, أو عاقبيني إلا بهجرك يا أماه

قالت: أنت قادر على المضي قدما فلا تعلق نفسك بأحد.

ولم يترك سبيلا يتوسل به إلا فعله لكنها كلما ازداد توسلا ازدادت تحجرا ووحشية

فلما أدرك أنه منبوذ وأن قلبها انغلق دونه ولن تعود له كما كانت جر أذيال الخيبة ومضى يكاد قلبه يتوقف ولا تحمله أرجله

فأمسى لا يسامره نديم

تعذبه الدقائق والثواني

كليم القلب محزونا كئيبا

غزير الدمع مسلوب الأماني

وبينما هو مدبر حانت منه التفاته فرأى ما صعقه وجعله ييأس وجعل جروحه تزيد نزفا وألما.

رأى طفلين حول أمه يلعبان

رأى من حل مكانه وأخذ منه الحنان الذي كان له

فغادر بصمت يعصره الألم وهو صامت لا يستطيع الشكوى لأحد

مضى يتخبط وتتعاقب عليه الأمراض والأحزان ولا يستطيع أن يتكلم

يتذكر تلك الأم الحنون التي أصبحت وحشا شرسا كاد أن يقتله ولا يصدق 

يريد استعادة تلك الأم ثم تصدمه صورة ذلك الوحش

يبتسم لذكرى جميلة ثم تدمع عينه للحقيقة التي انكشفت

يحس بخنجر مسموم يخترق أضلاعه ويستقر في قلبه

تمنى لو أنها ماتت ولم يرها بهذه الصورة القبيحة

ثم يدركه قلبه الطيب ويقول : لا يا نمر لا

لا تنس فضلا سابقا وإن كانت الخواتيم غير مرضية

كن للفضل شاكرا وللذنب غافرا وإن كنت دفعت ثمن الألم أضعافا

يا نمر ليس مثلك في هذه الدنيا فهاجرك خاسر وصاحبك بك ثري تاجر

أنت الكنز من استحوذ عليك فاز ومن تخلى عنك وفقدك خسر يا نمر

وفي هذه اللحظة يلوح في الأفق نور يبشر ببزوغ شمس جديدة يحتضن دفئها النمر الذي كاد يهلكه صقيع الثلج وحده وتحيي قلبه المطعون بالأمل

شمس تقول له: لا تحزن أيها النمر فقلبك الزجاجي ليس مستحيلا جبره فمهما تأذى ستجد حنانا يداوي جراحه وبلسما يزيل الألم.

إني أحمل لك ترياقا أسقيك إياه فتشفى وتستعيد عافيتك

وحاضرا ينسيك الماضي بكل آلامه ويعطيك ذكرى سعيدة تحل محل تلك الأحزان

فيخلق الله الفرح في قلب النمر رغم بضعة آلام ما زالت حية تمكنت الابتسامة من العودة إلى محياه بعد أن سلبتها منه الوحشية والعنف الذي واجههما

نم يا نمر قرير العين فأنت سيد هذه الأرض كنت أميرا فأصبحت ملكا

Be the first to comment

Leave a Reply